الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)} جملة مستأنفة وهذا شروع في الإخبار بعظيم قدرة الله تعالى، وهي تفيد مع ذلك تقوية التّنزيه في قوله: {سبحانه وتعالى عمّا يصفون} [الأنعام: 100] فتتنزّل منزلة التَعليل لمضمون ذلك التّنزيه بمضمونها أيضاً، وبهذا الوجه رَجَح فصلُها على عطفها فإنّ ما يصفونه هو قولهم: إنّ له ولداً وبنات، لأنّ ذلك التّنزيه يتضمّن نفي الشيء المنزّه عنه وإبطاله، فعُلّل الإبطال بأنّه خالقُ أعظم المخلوقات دلالة على القدرة فإذا كنتم تدّعون بنوّة الجنّ والملائكة لأجل عظمتها في المخلوقات وأنتم لا ترون الجنّ ولا الملائكة فلماذا لم تدّعوا البنوّة للسماوات والأرض المشاهدة لكم وأنتم ترونها وترون عظمها. فهذا الإبطال بمنزلة النّقض في علم الجدل والمناظرة. وقوله: {بديع} خبر لمبتدأ ملتزم الحذف في مثله، وهو من حذف المسند إليه الجاري على متابعة الاستعمال عندما يتقدّم الحديث عن شيء ثمّ يعقّب بخبر عنه مفردٍ، كما تقدّم في مواضع. وتقدّم الكلام على {بديع السّماوات والأرض} عند قوله تعالى: {بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قانتون بديع السّماوات والأرض} في سورة [البقرة (116، 117]. والاستدلال على انتفاء البنوة عن الله تعالى بإبدَاع السّماوات والأرض لأنّ خلْق المحلّ يقتضي خلق الحالّ فيه، فالمشركون يقولون بأنّ الملائكة في السّماء وأنّ الجنّ في الأرض والفيافي، فيلزمهم حدوث الملائكة والجنّ وإلاّ لَوُجد الحالّ قبل وجود المحلّ، وإذا ثبت الحدوث ثبت انتفاء البنوّة لله تعالى، لأنّ ابن الإله لا يكون إلاّ إلهاً فيلزم قِدمه، كيف وقد ثبت حدوثه، ولذلك عقّب قولهم {اتّخذ الله ولداً} [البقرة: 116] بقوله: {سبحانه بل له ما في السّماوات والأرض كلّ له قَانِتُون} في سورة [البقرة: 116]. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {الحمد لله الَّذي خلق السّماوات والأرض} في أوّل هذه السّورة [1]. وجملة أنَّى يكون له ولد} تتنزّل منزلة التّعليل لمضمون التنزيه مِن الإبطال، وإنّما لم تعطف على الّتي قبلها لاختلاف طريق الإبطال لأنّ الجملة الأولى أبطلتْ دعواهم من جهة فساد الشّبهة فكانت بمنزلة النقْض في المناظرة. وهذه الجملة أبطلت الدّعوى من جهة إبطال الحقيقة فكأنّها من جهة خطأ الدّليل، لأنّ قولهم بأنّ الملائكة بنات الله والجنّ أبناءُ الله يتضمّن دليلاً محذوفاً على البنوّة وهو أنّهم مخلوقات شريفة، فأبطل ذلك بالاستدلال بما ينافي الدّعوى وهو انتفاء الزّوجة الّتي هي أصل الولادة، فهذا الإبطال الثّاني بمنزلة المعارضة في المناظرة. و{أنّى} بمعنى من أيْن وبمعنى كَيْف. والواو في {ولم تكن له صاحبة} واو الحال لأنّ هذا معلوم للمخاطبين فلذلك جيء به في صيغة الحال. والصّاحبة: الزّوجة لأنّها تصاحب الزّوج في معظم أحْواله. وقد جعل انتفاء الزّوجة مسلّماً لأنّهم لم يدعوه فلزمهم انتفاء الولد لانتفاء شرط التولّد، وهذا مبنيّ على المحاجّة العرفيّة بناء على ما هو المعلوم في حقيقة الولادة. وقوله: {وخلَقَ كلّ شيء} عطف على جملة: {بديع السّماوات والأرض} باعتبار ظاهرها وهو التّوصيف بصفات العظمة والقدرة، فبعد أن أخبر بأنّه تعالى مبدع السّماوات والأرض أخبر أنّه خالق كلّ شيء، أي كلّ موجود فيشمل ذوات السّماوات والأرض، وشمل ما فيهما، والملائكة من جملة ما تحويه السّماوات، والجنّ من جملة ما تحويه الأرض عندهم، فهو خالق هذين الجنسين، والخالق لا يكون أبا كما علمتَ. ففي هذه الجملة إبطال والولَد أيضاً، وهذا إبطال ثالث بطريق الكليّة بعد أن أبطل إبطالاً جزئياً، والمعنى أنّ الموجودات كلّها متساوية في وصف المخلوقيّة، ولو كان له أولاد لكانوا غير مخلوقين. وجملة: {وهو بكلّ شيء عليم} تذييل لإتمام تعليم المخاطبين بعض صفات الكمال الثّابتة لله تعالى، فهي جملة معطوفة على جملة: {وخلق كلّ شيء} باعتبار ما فيها من التوّصيف لا باعتبار الردّ. ولكون هذه الجملة الأخيرة بمنزلة التّذييل عدل فيها عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {بكلّ شيء} دون أن يقول «به» لأنّ التّذييلات يقصد فيها أن تكون مستقلّة الدّلالة بنفسها لأنّها تشبه الأمثال في كونها كلاماً جامعاً لمعان كثيرة.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)} وقوع اسم الإشارة بعد إجراء الصّفات والأخبار المتقدّمة، للتّنبيه على أنّ المشار إليه حقيق بالأخبار والأوصاف الّتي تَرد بعد اسم الإشارة، كما تقدّم عند قوله: {ذلكم الله فأنَّى تؤفكون} [الأنعام: 95] قبل هذا، وقوله تعالى: {أولئك على هدى من ربّهم} في سورة [البقرة: 5]. والمشار إليه هو الموصوف بالصّفات المضمّنة بالأخبار المتقدّمة، ولذلك استغنى عن اتباع اسم الإشارة ببياننٍ أو بدل، والمعنى: ذلكم المبدع للسّماوات والأرض والخالق كلّ شيء والعليم بكلّ شيء هو الله، أي هو الّذي تعلمُونه. وقوله: ربّكم} صفة لاسم الجلالة. وجملة: {لا إله إلاّ هو} حال من {ربّكم} أو صفة. وقوله: {خالق كلّ شيء} صفة ل {ربّكم} أو لاسم الجلالة، وإنّما لم نجعله خبراً لأنّ الإخبار قد تقدّم بنظائره في قوله: {وخلق كلّ شيء}. وجملة: {فاعبدوه} مفرّعة على قوله: {ربّكم لا إله إلاّ هو} وقد جعل الأمر بعبادته مفرّعاً على وصفه بالرّبوبيّة والوحدانيّة لأنّ الربوبيّة مقتضية استحقاق العبادة، والانفرادُ بالربوبيّة يقتضي تخصيصه بالعبادة، وقدْ فهم هذا التّخصيص من التّفريع. ووجه أمرهم بعبادته أنّ المشركين كانوا معرضين عن عبادة الله تعالى بحيث لا يتوجّهون بأعمال البرّ في اعتقادهم إلاّ إلى الأصنام فهم يزورونها ويقرّبون إليها القرابين وينذرون لها النّذور ويستعينون بها ويستنجدون بنصرتها، وما كانوا يذكرون الله إلاّ في موسم الحجّ، على أنّهم قد خلطوه بالتّقرّب إلى الأصنام إذ جعلوا فوق الكعبة (هُبَل)، وجعلوا فوق الصّفا والمروة (أسافاً ونائلة). وكان كثير منهم يُهلّ (لمناة) في منتهى الحجّ، فكانوا معرضين عن عبادة الله تعالى، فلذلك أمروا بها صريحاً، وأمروا بالاقتصار عليها بطريق الإيماء بالتّفريع. وجملة: {وهو على كلّ شيء وكيل} يجوز أن تكون معطوفة على الصّفات المتقدّمة فتكون جملة {فاعبدوه} معترضة، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {فاعبدوه} بناء على جواز عطف الخبر على الإنشاء والعكس (وهو الحقّ)، على وجه تكميل التّعليل للأمر بعبادته دون غيره، بأنّه متكفّل بالأشياء كلّها من الخلق والرّزق والإنعام وكلّ ما يطلب المَرْءُ حفظه له، فالوجه عبادته ولا وجه لِعبادة غيره، فإنّ اسم الوكيل جامع لمعنى الحفظ والرّقابة، كما تقدّم عند قوله تعالى: {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} في سورة [آل عمران: 173].
{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} جملة ابتدائيّة لإفادة عظمته تعالى وسعة علمه، فلعظمته جلّ عن أن يحيط به شيء من أبصار المخلوقين، وذلك تعريض بانتفاء الإلهيّة عن الأصنام الّتي هي أجسام محدودة محصورة متحيّزة، فكونُها مدركة بالأبصار من سمات المحدثات لا يليق بالإلهيّة ولو كانت آلهة لكانت محتجبة عن الأبصار، وكذلك الكواكب الّتي عبدها بعض العرب، وأمّا الجنّ والملائكة وقد عبدوهما فإنّهما وإن كانا غير مدركين بالأبصار في المتعارف لكلّ النّاس ولا في كلّ الأوقات إلاّ أنّ المشركين يزعمون أنّ الجنّ تَبدو لهم تارات في الفيافي وغيرها. قال شَمِر بن الحارث الضبي: أتَوْا ناري فقلتُ مَنُونَ أنتُم *** فقالوا الجنّ قلتُ عِمُوا ظَلامَا ويتوهّمون أنّ الملائكة يظهرون لبعض النّاس، يتلقّون ذلك عن اليهود. والإدراك حقيقته الوصول إلى المطلوب. ويطلق مجازاً على شعور الحاسّة بالمحسوس أو العقللِ بالمعقول يقال: أدركَ بصري وأدرك عقْلي تشبيهاً لآلة العلم بشخص أو فرس وصل إلى مطلوبه تشبيهَ المعقول بالمحسوس، ويقال: أدرك فلان ببصره وأدرك بعقله، ولا يقال: أدرك فلان بدون تقييد، واصطلح المتأخّرون من المتكلّمين والحكماء على تسمية الشعور العقلي إدراكاً، وجعلوا الإدراك جنساً في تعريف التصوّر والتّصديق، ووصفوا صاحب الفهم المستقيم بالدّراكَة. وأمّا قوله تعالى: {وهو يدرك الأبصار} فيجوز أن يكون إسنادُ الإدراك إلى اسم الله مشاكلة لما قبله من قوله: {لا تدركه الأبصار}. ويجوز أن يكون الإدراك فيه مستعاراً للتصرّف لأنّ الإدراك معناه النوال. والأبصار جمع بصر، وهو اسم للقوّة الّتي بها النّظر المنتشرة في إنسان العين الّذي في وسط الحَدقة وبه إدراك المبصرات. والمعنى: لا تحيط به أبصار المبصرين لأنّ المدرِك في الحقيقة هو المبصِر لا الجارحة، وإنّما الجارحة وسيلة للإدراك لأنّها توصّل الصّورة إلى الحسّ المشترك في الدّماغ. والمقصود من هذا بيان مخالفة خصوصيّة الإلهِ الحقّ عن خصوصيات آلهتهم في هذا العالم، فإنّ الله لا يُرى وأصنامهم تُرى، وتلك الخصوصيّة مناسبة لعظمته تعالى، فإنّ عدم إحاطة الأبصار بالشّيء يكون من عظمته فلا تطيقه الأبصار، فعموم النّكرة في سياق النّفي يدلّ على انتفاء أن يُدركه شيء من أبصار المبصِرين في الدّنيا كما هو السّياق. ولا دلالة في هذه الآية على انتفاء أن يكون الله يُرى في الآخرة، كما تمسّك به نفاة الرّؤية، وهم المعتزلة لأنّ للأمور الآخرة أحوالاً لا تجري على متعارفنا، وأحرى أن لا دلالة فيها على جواز رؤيته تعالى في الآخرة. ومن حاول ذلك فقد تكلّف ما لا يتمّ كما صنع الفخر في «تفسيره». والخلاف في رؤية الله في الآخرة شائع بين طوائف المتكلّمين؛ فأثبته جمهور أهل السنّة لكثرة ظواهر الأدلّة من الكتاب والسنّة مع اتّفاقهم على أنّها رؤية تخالف الرّؤية المتعارفة. وعن مالك رحمه الله «لو لم يَر المؤمنون ربّهم يوم القيامة لم يُعَيَّر الكفّار بالحجاب في قوله تعالى: {كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذٍ لمحجوبون} [المطففين: 15]. وعنه أيضاً «لم يُر الله في الدّنيا لأنّه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصاراً باقية رأوا الباقيَ بالباقي». وأمّا المعتزلة فقد أحالوا رؤية الله في الآخرة لاستلزامها الانحياز في الجهة. وقد اتّفقنا جميعاً على التّنزيه عن المقابلة والجهة، كما اتّفقنا على جواز الانكشاف العلمي التّامّ للمؤمنين في الآخرة لحقيقة الحقّ تعالى، وعلى امتناع ارتسام صورة المرْئي في العين أو اتّصال الشّعاع الخارج من العين بالمرئي تعالى لأنّ أحوال الأبصار في الآخرة غير الأحوال المتعارفة في الدّنيا. وقد تكلّم أصحابنا بأدلّة الجواز وبأدلّة الوقوع، وهذا ممّا يجب الإيمان به مجملاً على التّحقيق. وأدلّة المعتزلة وأجوبتنا عليها مذكورة في كتب الكلام وليست من غرض التّفسير ومرجعها جميعاً إلى إعمال الظاهر أو تأويله. ثمّ اختلف أيمّتنا هل حصلت رؤية الله تعالى للنّبيء صلى الله عليه وسلم فنفى ذلك جمع من الصّحابة منهم عائشة وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله عنهم وتمسّكوا بعموم هذه الآية كما ورد في حديث البخاري عن عكرمة عن عائشة. وأثبتها الجمهور، ونقل عن أبَيّ بن كعب وابن عبّاس رضي الله عنهما، وعليه يكون العموم مخصوصاً. وقد تعرّض لها عياض في «الشّفاء». وقد سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب بجواب اختلف الرّواةُ في لفظه، فحجب الله بذلك الاختلاف حقيقةَ الأمر إتماماً لمراده ولطفاً بعباده. وقوله: {وهو يدرك الأبصار} معطوف على جملة: {لا تدركه الأبصار} فإسناد الإدراك إلى ضمير اسمه تعالى إمّا لأنّ فعل {يُدرك} استعير لمعنى يَنال، أي لا تخرج عن تصرّفه كما يقال: لَحِقَه فأدركه، فالمعنى يَقدر على الأبصار، أي على المبصِرين، وإمّا لاستعارة فعل {يدرك} لمعنى يعلم لمشاكلة قوله: {لا تدركه الأبصار} أي لا تعلمه الأبصار. وذلك كناية عن العلم بالخفيّات لأنّ الأبصار هي العَدَسات الدّقيقة الّتي هي واسطة إحساس الرّؤية أو هي نفس الإحساس وهو أخفى. وجَمعهُ باعتبار المدرِكين. وفي قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} محسِّن الطِّباق. وجملة: {وهو اللّطيف الخبير} معطوفة على جملة: {لا تدركه الأبصار} فهي صفة أخرى. أو هي تذييل للاحتراس دفعا لتوهّم أنّ من لا تدْركه الأبصار لا يعلم أحوال من لا يدركونه. واللّطيف: وصف مشتقّ من اللّطف أو من اللّطافة. يقال: لطف بفتح الطّاء بمعنى رَفق، وأكرَم، واحتفَى. ويتعدّى بالباء وباللاّم باعتبار ملاحظة معنى رَفق أو معنى أحْسن. ولذلك سمّيت الطُّرفة والتُّحفَة الّتي يكرَم بها المرء لَطفَا (بِالتّحريكِ)، وجمعها ألطاف. فالوصف من هذا لاَطِف ولَطِيف؛ فيكون اللّطيف اسمَ فاعل بمعنى المبالغة يدلّ على حذف فعل من فاعله، ومنه قوله تعالى عن يوسف {إنّ ربّي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100]. ويقال لَطُفَ بضمّ الطّاء أي دَقّ وخَفّ ضدّ ثَقُل وكَثُف. واللّطيف: صفة مشبّهة أو اسم فاعل. فإن اعتبرت وصفاً جارياً على لطُف بضمّ الطّاء فهي صفة مشبّهة تدلّ على صفة من صفات ذات الله تعالى، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته، فيكون اختيارها للتّعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصّراحة والرّشاقة في الكلمة لأنّها أقرب مادّة في اللّغة العربيّة تقرّب معنى وصفه تعالى بحسب ما وُضعت له اللّغة من متعارف النّاس، فيَقْرب أن تكون من المتشابه، وعليه فتكون أعمّ من مدلول جملة {لا تدركه الأبصار}، فتتنزّل من الجملة الّتي قبلها منزلة التّذييل أو منزلة الاستدلال على الجزئيّة بالكلّية فيزيد الوصفَ قبله تمكّناً. وعلى هذا المعنى حملها الزمخشري في «الكشاف» لأنّه أنسب بهذا المقام وهو من معاني الكلمة المشهورة في كلام العرب، واستحسنه الفخر وجوّزه الرّاغب والبيضاوي، وهو الّذي ينبغي التّفسير به في كلّ موضع اقترن فيه وصف اللّطيف بوصف الخبير كالّذي هنا والّذي في سورة المُلك. وإن اعتبر اللّطيف اسم فاعل من لطَف بفتح الطّاء فهو من أمثلة المبالغة يدلّ على وصفه تعالى بالرّفق والإحسان إلى مخلوقاته وإتقان صنعه في ذلك وكثرة فعله ذلك، فيدلّ على صفة من صفات الأفعال. وعلى هذا المعنى حمله سائر المفسّرين والمبيّنين لمعنى اسمه اللّطيف في عداد الأسماء الحسنى. وهذا المعنى هو المناسب في كلّ موضع جاء فيه وصفه تعالى به مفرداً معدّى باللاّم أو بالباء نحو {إنّ ربّي لطيف لما يشاء} [يوسف: 100]، وقوله: {الله لطيف بعباده} [الشوى: 19]. وبه فسّر الزمخشري قوله تعالى: {الله لطيف بعباده} فللّه درّه، فإذا حمل على هذا المحمل هنا كان وصفاً مستقلاً عمّا قبله لزيادة تقرير استحقاقه تعالى للإفراد بالعبادة دون غيره. و«خَبير» صفة مشبّهة من خبُر بضمّ الباء في الماضي، خُبراً بضمّ الخاء وسكون الباء بمعنى عَلِم وعرَف، فالخبير الموصوف بالعلم بالأمور الّتي شأنها أن يُخبر عنها عِلماً موافقاً للواقع. ووقوع الخبير بعد اللّطيف على المحمل الأوّل وقوعُ صفة أخرى هي أعمّ من مضموننِ {وهو يدرك الأبصار}، فيكمل التّذييل بذلك ويكون التّذييل مشتملاً على محسِّن النشر بعد اللّف؛ وعلى المحمل الثّاني موقعه موقع الاحتراس لمعنى اللّطيف، أي هو الرّفيق المحسن الخبير بمواقع الرّفق والإحسان وبمستحقّيه.
{قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)} هذا انتقال من محاجّة المشركين، وإثبات الوحدانيّة لله بالربوبيّة من قوله: {إنّ الله فالق الحبّ والنَّوى إلى قوله وهو اللّطيف الخبير} [الأنعام: 95 103]. فاستؤنف الكلام بتوجيه خطاببٍ للنّبيء عليه الصّلاة والسّلام مقوللٍ لفعللِ أمر بالقول في أوّل الجملة، حُذف على الشّائع من حذف القول للقرينة في قوله: {وما أنا عليكم بحفيظ} [الأنعام: 104]. ومناسبة وقوع هذا الاستئناف عقب الكلام المسوق إليهم من الله تعالى أنّه كالتّوقيف والشّرح والفذلكة للكلام السّابق فيقدر: قُل يا محمّد قد جاءكم بصائر. وبصائر جمع بصيرة، والبصيرة: العقل الّذي تظهر به المعاني والحقائق، كما أنّ البصر إدراك العين الّذي تتجلّى به الأجسام، وأطلقت البصائر على ما هو سبب فيها. وإسناد المجيء إلى البصائر استعارة للحصول في عقولهم، شُبّه بمجيء شيء كان غائباً، تنويهاً بشأن ما حصل عندهم بأنّه كالشّيء الغائب المتوقَّع مجيئه كقوله تعالى: {جاء الحقّ وزهق الباطل} [الإسراء: 81]. وخلو فعل «جاء» عن علامة التّأنيث مع أنّ فاعله جمعُ مؤنّث لأنّ الفعل المسند إلى جمع تكسير مطلقاً أو جمع مؤنّث يجوز اقترانه بتاء التّأنيث وخلوُّه عنها. و (من) ابتدائيّة تتعلّق ب«جاء» أو صفة ل {بصائر}، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جَانبه تعالى، وهو منزّه عن المكان والزّمان، فالابتداء مجاز لغوي، أو هو مجاز بالحذف بتقدير: مِن إرادةِ ربّكم. والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر، والحثّ على العمل بها، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ، مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر. ولذلك فرّع عليه قوله: {فمن أبصر فلنفسه}، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها «فمن أبصر فلنفسه أبصر»، أي من عَلِم الحقّ فقد عَلِم علماً ينفع نفسه، {ومن عمي} أي ضلّ عن الحقّ فقد ضلّ ضَلالاً وزره على نفسه. فاستعير الإبصار في قوله: {أبصر} للعلم بالحقّ والعمللِ به لأنّ المهتدي بهذا الهدي الواردِ من الله بمنزلة الّذي نُوّر له الطّريق بالبدر أو غيره، فأبصره وسار فيه، وبهذا الاعتبار يجوز أن يكون {أبصر} تمثيلاً موجزاً ضمّن فيه تشبيه هيئة المرشَد إلى الحقّ إذا عمِل بها أرشِد به، بهيئة المبصر إذا انتفع ببصره. واستعير العمى في قوله: {عَمِيَ} للمكابرة والاستمرار على الضّلال بعد حصول ما شأنه أن يُقلعه لأنّ المكابر بعد ذلك كالأعمى لا ينتفع بإنارة طريق ولا بهَدْي هاد خِرّيتتٍ. ويجوز اعتبار التمّثيليّة فيه أيضاً كاعتبارها في ضدّه السابق. واستعمل اللاّم في الأوّل استعارة للنّفع لدلالتها على المِلك وإنّما يُملك الشّيءُ النّافعُ المدّخر للنّوائب، واستعيرت (على) في الثّاني للضرّ والتّبعة لأنّ الشّيء الضّارّ ثقيل على صاحبه يكلّفه تَعباً وهو كالحِمل الموضوع على ظهره، وهذا معروف في الكلام البليغ، قال تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه} [فصلت: 46]، وقال {من اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنّما يضلّ عليها} [الإسراء: 15]، وقال {وليَحْمِلُنّ أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}، ولأجل ذلك سمّي الإثم وزراً كما تقدّم في قوله تعالى: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} [الأنعام: 31]، وقد جاء اللاّم في موضع (على) في بعض الآيات، كقوله تعالى: {إنْ أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسَأتم فلَهَا} [الإسراء: 7]. وفي الآية محسّن جناس الاشتقاق بين «البصائر» و«أبصَر»، وملاحظة مناسبة في الإبصار والبصائر. وفيها محسّن المطابقة بين قوله: {أبصر} و{عمي}، وبين (اللاّم) و(عَلى). ويتعلّق قوله: {لنفسه} بمحذوف دلّ عليه فعل الشّرط. وتقديره: فمن أبصر فلنفسه أبصر. واقترن الجواب بالفاء نظراً لصدره إذ كان اسماً مجروراً وهو غير صالح لأن يلي أداةَ الشّرط. وإنّما نسج نظم الآية على هذا النّسْج للإيذان بأنّ {لنفسه} مقدّم في التّقدير على متعلّقه المحذوف. والتّقدير: فلنفسه أبصر، ولولا قصد الإيذان بهذا التّقديم لقال: فمن أبصر أبصر لنفسه، كما قال: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7] والمقام يقتضي تقديم المعمول هنا ليفيد القصر، أي فلنفسه أبصر لا لفائدة غيره، لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم يغيظون النّبيء صلى الله عليه وسلم بإعراضهم عن دعوته إيّاهم إلى الهدى، وقرينة ذلك أن هذا الكلام مقول من النبي صلى الله عليه وسلم وقد أومأ إلى هذا صاحب «الكشاف»، بخلاف آية {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} [الإسراء: 7]، فإنّها حكت كلاماً خُوطب به بنو إسرائيل من جانب الله تعالى وهم لا يتوهّمون أنّ إحسانهم ينفع الله أو إساءتهم تضرّ الله. والكلام على قوله: {ومن عمي فعليها} نظير الكلام على قوله: {فمن أبصر فلنفسه}. وعُدّي فعل {عَمِيَ} بحرف (على) لأنّ العمى لمّا كان مجازاً كان ضُرّاً يقع على صاحبه. وجملة: {وما أنا عليكم بحفيظ} تكميل لما تضمّنه قوله: {فمن أبصر فلنفسه ومن عمِي فعليها}، أي فلا ينالني من ذلك شيء فلا يرجع لي نفعكم ولا يعود عليّ ضرّكم ولا أنا وكيل على نفعكم وتجنّب ضرّكم فلا تحسبُوا أنّكم حتّى تمكرون بي بالإعراض عن الهدى والاستمرار في الضّلال. والحفيظ: الحارس ومن يُجعل إليه نظر غيره وحفظُه، وهو بمنزلة الوكيل إلاّ أنّ الوكيل يكون مجعولاً له الحفظ من جانب الشيء المحفوظ، والحفيظ أعمّ لأنّه يكون من جانبه ومن جانب مَواليه. وهذا قريب من معنى قوله {وكذّب به قومك وهو الحقّ قل لستُ عليكم بوكيل} [الأنعام: 66]. والإتيان بالجملة الاسميّة هنا دقيق، لأنّ الحفيظ وصف لا يُفيد غيرُه مُفادَه، فلا يقوم مقامَه فعل حَفِظ، فالحفيظ صفة مشبّهة يقدّر لها فِعْل منقول إلى فَعُل بضمّ العين لم يُنطق به مثل الرّحيم. ولا يفيد تقديم المسند إليه في الجملة الاسميّة اختصاصاً خلافاً لما يوهمه ظاهر تفسير الزمخشري وإن كان العلامة التّفتزاني مال إليه، وسكت عنه السيّد الجرجاني وهو وقوف مع الظّاهر. وتقديم {عليكم} على {بحفيظ} للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
{وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)} جملة معترضة تذييلاً لما قَبلها. والواو اعتراضية فهو متّصل بجملة: {قد جاءكم بصائر من ربّكم} [الأنعام: 104] الّتي هي من خطاب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير «قل» كما تقدّم، والإشارة بقوله: {وكذلك} إلى التّصريف المأخوذ من قوله: {نُصرّف الآيات}. أي ومثلَ ذلك التّصريف نُصرّف الآيات. وتقدّم نظيره غير مرّة وأوّلها قوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسَطا} في سورة [البقرة: 143]. والقول في تصريف الآيات تقدّم في قوله تعالى: {انظر كيف نصرّف الآيات} في هذه السّورة [46]. وقوله: {وليقُولوا دَرَسْتَ} معطوف على {وكذلك نصرّف الآيات}. وقد تقدّم بيان معنى هذا العطف في نظيره في قوله تعالى: {وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين} من هذه السّورة [55]. ولكن ما هنا يخالف ما تقدّم مخالفة مَّا فإنّ قول المشركين للرّسول عليه الصلاة والسلام درستَ} لا يناسب أن يكون علّة لتصريف الآيات، فتعيَّن أن تكون اللاّم مستعارة لمعنى العاقبة والصيرورة كالّتي في قوله تعالى: {فالتقطه آل فرعون ليكونَ لهم عدوّاً وحزناً} [القصص: 8]. المعنى. فكان لهم عدوّاً. وكذلك هنا، أي نصرّف الآيات مثلَ هذا التّصريف الساطع فيحسبونك اقتبسته بالدّراسة والتّعليم فيقولوا: دَرَسْتَ. والمعنى: أنّا نصرّف الآيات ونبيّنها تبييناً من شأنه أن يصدر من العَالِم الَّذي دَرَس العلم فيقول المشركون دَرستَ هذا وتَلَقَّيتَه من العلماء والكُتب، لإعراضهم عن النّظر الصّحيح الموصل إلى أنّ صدور مثل هذا التَّبيين من رجل يعلمونه أمِّيّاً لا يكون إلاّ من قِبل وحي من الله إليه، وهذا كقوله: {ولقد نعلم أنّهم يقولون إنّما يعلّمه بشر} [النحل: 103] وهم قد قالوا ذلك من قَبْل ويقولونه ويزيدون بمقدار زيادة تصريف الآيات، فشُبّه ترَتُّب قولهم على التّصريف بترتّب العلّة الغائيَّة، واستعير لهذا المعنى الحرفُ الموضوع للعلّة على وجه الاستعارة التّبعيّة، ولذلك سمَّى بعض النّحويين مثل هذه اللاّم لام الصّيرورة، وليس مرادهم أنّ الصّيرورة معنى من معاني اللاّم ولكنّه إفصاح عن حاصل المعنى. والدّراسة: القراءة بتمهّل للحفظ أو للفهم، وتقدّم عند قوله تعالى: {وبما كنتم تدرسون} في سورة [آل عمران: 79]. وفعله من باب نصر. يقال: درس الكتاب، أي تعلّم. وقد تقدّم في قوله تعالى: {بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون} [آل عمران: 79]، وقال {وَدَرَسوا ما فيه} [الأعراف: 169]. وسمّي بيت تعلّم اليهود المِدْرَاسَ، وسمّي البيت الّذي يسكنه التّلامذة ويتعلّمون فيه المدرسة. والمعنى يقولون: تعلّمت، طعْناً في أمّية الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لئلاّ يلزمَهم أنّ ما جاء به من العلم وحي من الله تعالى. وقرأ الجمهور {درست} بدون ألف وبفتح التّاء. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو «دَارسْتَ» على صيغة المفاعلة وبفتح التّاء أي يقولون: قرأت وقُرئ عليك، أي دارسْتَ أهل الكتاب وذاكرتهم في علمهم. وقرأه ابن عامر ويعقوب «دَرَسَتْ» بصيغة الماضي وتاء التأنيث أي الآيات، أي تكرّرتْ. وأمّا اللاّم في قوله: {ولنبيّنه لقوم يعلمون} فهي لام التّعليل الحقيقيّة. وضمير {نبيّنه} عائد إلى القرآن لأنّه ماصْدَق {الآيات}، ولأنّه معلوم من السّياق. والقوم هم الّذين اهتدوا وآمنوا كما تقدّم في قوله: {قد فصّلنا الآيات لقوم يعلمون} [الأنعام: 97]، والكلام تعريض كما تقدّم. والمعنى أنّ هذا التّصريف حصل منه هدى للموفّقين ومكابرة للمخاذيل. كقوله تعالى: {يضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلّ به إلاّ الفاسقين} [البقرة: 26].
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)} استئناف في خطاب النّبيء عليه الصّلاة والسّلام لأمره بالإعراض عن بهتان المشركين وأن لا يكترث بأقوالهم، فابتداؤه بالأمر باتّباع ما أوحي إليه يتنزّل منزلة المقدّمة للأمر بالإعراض عن المشركين، وليس هو المقصد الأصلي من الغرض المسوق له الكلام، لأنّ اتّباع الرّسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه أمر واقع بجميع معانيه؛ فالمقصود من الأمر الدّوام على اتّباعه. والمعنى: أعرض عن المشركين اتّباعاً لما أنزل إليك من ربّك. والمراد بما أوحي إليه القرآن. والاتِّباع في الأصل اقتفاء أثر الماشِي، ثمّ استعمل في العمل بمثل عمل الغير، كما في قوله: {والّذين اتّبعوهم بإحسان} [التوبة: 100]. ثمّ استعمل في امتثال الأمر والعمل بما يأمر به المتبوع فهو الائتمار، ويتعدّى فعله إلى ذات المتَّبَع فيقال: اتَّبعت فلاناً بهذه المعاني الثّلاثة وهو على حذف مضاف في جميع ذلك لأنّ الاتّباع لا يتعلّق بالذّات. وإطلاق الاتّباع بمعنى الائتمار شائع في القرآن لأنّه جاء بالأمر والنّهي وأمر النّاس باتّباعه، واستُعمل أيضاً في معنى الملازمة على سبيل المجاز المرسل، لأنّ من يتّبع أحداً يلازمه. ومنه سمّي الرّئيّ من الجنّ في خرافات العرب تابعة، ومنه سمّى من لازم الصّحابي وروى عنه تابعياً. فيجوز أن يكون الاتّباع في الآية مراداً به دوام الامتثال لما أمر به القرآن من الإعراض عن أذى المشركين وعنادهم، فالاتّباع المأمور به اتّباع في شيء مخصوص، وهذا مأمور به غير مرّة، فالأمر بالفعل مستمرّ في الأمر بالدّوام عليه. ويجوز أن يكون أمراً بملازمة الدّعوة إلى الله والإعلان بها ودعاء المشركين إلى التّوحيد والإيمان وأن لا يعتريه في ذلك لَيْن ولا هوادة حتّى لا يكون لبذاءتهم وتكذيبهم إيّاه تأثير على نفسه يوهن دعوتهم والحرصَ على إيمانهم واعتقاد أنّ محاولة إيمانهم لا جدوى لها. فالمراد بما أوحي إليه ما أوحي من القرآن خطاباً للمشركين، أو أمراً بدعوتهم للإسلام وعدم الانقطاع عن ذلك، فيكون الكلام شدّاً لساعد النّبيء صلى الله عليه وسلم في مقامات دعوته إلى الله، وهذا هو المناسب لقوله: {لا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله} [الأنعام: 108] كما سنبيّنه. وقد تقدّم شيء من هذا آنفاً عند قوله تعالى: {إنْ أتَّبِعُ إلاّ ما يوحَى إليّ} [الأنعام: 50]. وليس المراد من الأمر بالاتّباع الأمرُ باتّباع أوامر القرآن ونواهيه مطلقاً، لأنّه لا مناسبة له بهذا السّياق، وفي الإتيان بلفظ: {ربّك} دون اسم الجلالة تأنيس للرّسول صلى الله عليه وسلم وتلطّف معه. وجملة: {لا إله إلاّ هو} معترضة، والمقصود منها إدماج التّذكير بالوحدانيّة لزيادة تقرّرها وإغاظة المشركين. والمراد بالإعراض عن المشركين الإعراض عن مكابرتهم وأذاهم لا الإعراض عن دعوتهم، فإنّ الله لم يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقطع الدّعوة لأي صنف من النّاس، وكلّ آية فيها الأمر بالإعراض عن المشركين فإنّما هو إعراض عن أقوالهم وأذاهم، ألا ترى كلّ آية من هذه الآيات قد تلتْها آيات كثيرة تدعو المشركين إلى الإسلام والإقلاع عن الشّرك كقوله تعالى في سورة [النّساء: 63]: {فأعرض عنهم وعِظْهُم} وقد تقدّم. وقوله: ولو شاء الله ما أشركوا} عطف على جملة {وأعرض عن المشركين}. وهذا تلطّف مع الرّسول صلى الله عليه وسلم وإزالة لما يلقاه من الكَدَر من استمرارهم على الشّرك وقلّة إغناء آيات القرآن ونُذُره في قلوبهم، فذكّره الله بأنّ الله قادر على أن يحوّل قلوبهم فتقبَل الإسلام بتكوين آخر ولكنّ الله أراد أن يحصل الإيمانُ ممّن يؤمن بالأسباب المعتادة في الإرشاد والاهتداء ليَميز الله الخبيثَ من الطيّب وتَظهرَ مراتب النّفوس في ميادين التلقّي، فأراد الله أن تختلف النّفوس في الخير والشّر اختلافاً ناشئاً عن اختلاف كيفيّات الخِلقة والخُلُق والنّشأة والقبوللِ، وعن مراتب اتّصال العباد بخالقهم ورجائهم منه. فالمشركون بلغوا إلى حَضِيض الشّرك بأسباب ووسائلَ متسلسلة مترتّبة خَلْقية، وخُلُقيّة، واجتماعيّة، تهيأت في أزمنة وأحوال هيّأتْها لهم، فلمّا بَعَث الله إليهم المرشد كان إصغاؤهم إلى إرشاده متفاوتاً على تفاوت صلابة عقولهم في الضّلال وعراقتهم فيه، وعلى تفاوت إعداد نفوسهم للخير وجموحهم عنه، ولم يجعل الله إيمان النّاس حاصلاً بخوارق العادات ولا بتبديل خَلْق العقول، وهذا هو القانون في معنى مثل هذه الآية، فهذا معنى انتفاء مشيئة الله في هذا المقام المراد به تطمين قلب الرّسول عليه الصّلاة والسّلام وتذكيره بحقائق الأحوال وليس في مثل هذا عذر لهم ولا لأمثالهم من العصاة، ولذلك ردّ الله عليهم الاعتذار بمثل هذا في قوله في الآية الآتية {سيقول الّذين أشركوا لو شاءَ الله ما أشْرَكْنا ولا آباؤنا ولا حَرّمنَا من شيء كذلك كذّب الّذين من قبلهم حتّى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا} [الأنعام: 148] الآية. وفي قوله: {وقالوا لو شاء الرّحمان ما عَبدْناهم ما لهم بذلك من علم إنْ هم إلاّ يخرصون} [الزخرف: 20] في سورة الزخرف، لأنّ هذه حقيقة كاشفة عن الواقع لا تصلح عذراً لمن طلب منهم أن لا يكونوا في عِداد الّذين لم يشأ الله أن يرشدهم، قال تعالى: {أولئك الّذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم} [المائدة: 41]. ومفعول المشيئة محذوف دلّ عليه جواب (لو) على الطّريقة المعروفة. والتّقدير: ولو شاء الله عدمَ إشراكهم ما أشركوا. وتقدّم عند قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} في هذه السّورة [35]. وقوله: {وما جعلناك عليهم حفيظاً} تذكير وتسلية ليزيح عنه كرب إعراضهم عن الإسلام لأنّ ما يحصل له من الكدر لإعراض قومه عن الإسلام يجعل في نفسه انكساراً كأنّه انكسار من عُهد إليه بعمل فلم يتسَنَّ له ما يريده من حسن القيام، فذكّره الله تعالى بأنّه قد أدّى الأمانة وبلّغ الرّسالة وأنّه لم يبعثه مُكرهاً لهم ليأتي بهم مسلمين، وإنّما بعثه مبلّغاً لرسالته فمن آمن فلنفسه ومن كفر فعليها. والحفيظ: القيّم الرّقيب، أي لم نجعلك رقيباً على تحصيل إيمانهم فلا يهمّنك إعراضهم عنك وعدم تحصيل ما دعوتَهم إليه إذ لا تَبِعة عليك في ذلك، فالخبر مسوق مساق التّذكير والتسلية، لا مساقَ الإفادة لأنّ الرّسول عليه الصّلاة والسّلام يعلم أنّ الله ما جعله حفيظاً على تحصيل إسلامهم إذ لا يجهل الرّسولُ ما كلّف به. وكذلك قوله: {وما أنت عليهم بوكيل} تهوين على نفس الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بطريقة التّذكير لينتفي عنه الغمّ الحاصل له من عدم إيمانهم. فإن أريد ما أنت بوكيل مِنَّا عليهم كان تتميماً لقوله: {وما جعلناك عليهم حفيظاً}؛ وإنْ أريد ما أنتَ بوكيل منهم على تحصيل نفعهم كان استيعاباً لنفي أسباب التّبعة عنه في عدم إيمانهم، يقول: ما أنت بوكيل عليهم وكّلوك لتحصيل منافعهم كإيفاء الوكيل بما وكّله عليه موكّله، أي فلا تَبِعة عليك منهم ولا تقصير لانتفاء سببي التّقصير إذ ليس مقامك مقام حفيظ ولا وكيل. فالخبر أيضاً مستعمل في التّذكير بلازمه لا في حقيقته من إفادة المخبر به، وعلى كلا المعنيين لا بدّ من تقدير مضاف في قوله: {عليهم}، أي على نفعهم. والجمع بين الحفيظ والوكيل هنا في خبرين يؤيّد ما قلناه آنفاً في قوله تعالى: {وما أنا عليكم بحفيظ} [الأنعام: 104]. من الفرق بين الوكيل والحفيظ فاذْكُره.
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)} عطف على قوله: {وأعرض عن المشركين} [الأنعام: 106] يزيد معنى الإعراض المأمور به بياناً، ويحقّق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدّعوة بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم مع الدّوام على متابعة الدّعوة بالقرآن، فإنّ النّهي عن سبّ أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم وإبطال معتقداتهم مع تجنّب المسلمين سبّ ما يدعونهم من دون الله. والسبّ: كلام يدلّ على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة، بالباطل أو بالحقّ، وهو مرادف الشّتم. وليس من السبّ النسبةُ إلى خطإ في الرّأي أو العمللِ، ولا النّسبة إلى ضلال في الدّين إن كان صدر من مخالف في الدّين. والمخاطب بهذا النّهي المسلمون لا الرّسول صلى الله عليه وسلم لأنّ الرّسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً لأنّ خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنّه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن فإذا شاء الله تركه من وحيه الّذي ينزله، وإنّما كان المسلمون لغيرتهم على الإسلام ربّما تجاوزوا الحدّ ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين. روى الطّبري عن قتادة قال «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفّار فيردّون ذلك عليهم فنهاهم الله أن يستَسبّوا لربّهم». وهذا أصحّ ما روي في سبب نزول هذه الآية وأوفَقُه بنظم الآية. وأمّا ما روى الطّبري عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس أنّه لمّا نزل قوله تعالى: {إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم} [الأنبياء: 98] قال المشركون: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجُوَنّ إلهك، فنزلت هذه الآية في ذلك، فهو ضعيف لأنّ عليّ بن أبي طلحة ضعيف وله منكرات ولم يلق ابن عبّاس. ومن البعيد أن يكون ذلك المراد من النّهي في هذه الآية، لأنّ ذلك واقع في القرآن فلا يناسب أن ينهى عنه بلفظ {ولا تسُبّوا} وكان أن يقال: ولا تجهروا بسبّ الّذين يَدْعون من دون الله مثلاً. كما قال في الآية الأخرى {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} [الإسراء: 110]. وكذا ما رواه عن السديّ أنّه لمّا قربت وفاة أبي طالب قالت قريش: ندخل عليه ونطلب منه أن ينهى ابنَ أخيه عنّا فإنّا نستحيي أن نقتله بعد موته، فانطلق نفر من سادتهم إلى أبي طالب وقالوا: أنت سيّدنا، وخاطبوه بما راموا، فدعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال له: هؤلاء قومك وبنو عمّك يريدون أن تدَعهم وآلهتَهم ويدَعوك وإلَهَك، وقالوا: لتكُفّن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنّك ولنشتمنّ من يأمُرك. ولم يقل السدّي أنّ ذلك سبب نزول هذه الآية ولكنّه جعله تفسيراً للآية، ويرد عليه ما أوردناه على ما روي عن عليّ بن أبي طلحة. قال الفخر: ههنا إشكالان هما: أنّ النّاس اتَّفقوا على أنّ سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة فكيف يصحّ أن يقال: إنّ سبب نزول هذه الآية كذا، وأنّ الكفّار كانوا مقرّين بالله تعالى وكانوا يقولون: عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله فكيف يعقل إقدامُ الكفّار على شتم الله تعالى اه. وأقول: يدفع الإشكال الأوّل أنّ سبب النّزول ليس يلزم أن يكون مقارناً للنّزول فإنّ السّبب قد يتقدّم زمانه ثمّ يشار إليه في الآية النّازلة فتكون الآية جواباً عن أقوالهم. وقد أجاب الفخر بمثل هذا عند قوله تعالى: {ولو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة} [الأنعام: 111] الآية. ويدفع الإشكال الثّاني أنّ المشركين قالوا لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا لنهجونّ إلهك، ومعناه أنّهم ينكرون أنّ الله هو إلهه ولذلك أنكروا الرّحمان {وإذا قيل لهم اسجدوا للرّحمان قالوا وما الرّحمان أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا} [الفرقان: 60]. فهم ينكرون أنّ الله أمره بذمّ آلهتهم لأنّهم يزعمون أنّ آلهتهم مقرّبون عند الله، وإنّما يزعمون أنّ شيطاناً يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بسبّ الأصنام، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لمّا فتَر الوحي في ابتداء البعثة: ما أرى شيطانه إلاّ ودّعه، وكان ذلك سبب نزول سورة الضّحى. وجواب الفخر عنه {بأنّ بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون، أو أنّ المراد أنّهم يشتمون الرّسول عليه الصّلاة والسّلام فأجرى الله شتم الرّسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى: {إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون الله} [الفتح: 10] اه. فإنّ في هذا التّأويل بُعداً لا داعي إليه. والوجه في تفسير الآية أنّه ليس المراد بالسبّ المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم ممّا يدلّ على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى: {أولئك كالأنعام بل هم أضلّ} في سورة الأعراف (179). وأمّا ما عداه من نحو قوله تعالى: ألهم أرجل يمشون بها} [الأعراف: 195] فليس من الشّتم ولا من السبّ لأنّ ذلك من طريق الاحتجاج وليس تصدّياً للشّتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذمّ والتّعبير لآلهة المشركين، كما روي في «السيرة» أنّ عُروة بن مسعود الثّقفي جاء رسولاً من أهل مكّة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الحديبيّة فكان من جملة ما قاله: " وأيم الله لكأنّي بهؤلاء (يعني المسلمين) قد انكشفوا عنك "، وكان أبو بكر الصدّيق حاضراً، فقال له أبو بكر «امصُصْ بَظْر اللاّت» إلى آخر الخبر. ووجه النّهي عن سبّ أصنامهم هو أنّ السبّ لا تترتَّب عليه مصلحة دينيّة لأنّ المقصود من الدّعوة هو الاستدلال على إبطال الشّرك وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الّذي يتميّز به الحقّ عن الباطل، وينهض به المحقُّ ولا يستطيعه المبطل، فأمّا السبّ فإنّه مقدور للمحقّ وللمبطل فيظهر بمظهر التّساوي بينهما. وربّما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحقّ، فيلوح للنّاس أنّه تغلّب على المحقّ. على أنّ سبّ آلهتهم لمّا كان يُحمي غيظهم ويزيد تصلّبهم قد عادَ مُنافياً لمراد الله من الدّعوة، فقد قال لرسوله عليه الصّلاة والسّلام " وجادلهم بالّتي هي أحسن "، وقال لموسى وهارون عليهما السّلام «فقولا له قولاً ليّناً»، فصار السبّ عائقاً من المقصود من البعثة، فتمحّض هذا السبّ للمفسدة ولم يكن مشوباً بمصلحة. وليس هذا مثل تغيير المنكر إذا خيف إفضاؤه إلى مفسدة لأنّ تغيير المنكر مصلحة بالذّات وإفضاؤه إلى المفسدة بالعَرض. وذلك مَجال تتردّد فيه أنظار العلماء المجتهدين بحسب الموازنة بين المصالح والمفاسد قوّة وضعفاً، وتحقّقاً واحتمالاً. وكذلك القول في تعارض المصالح والمفاسد كلّها. وحكم هذه الآية محكم غير منسوخ. قال القرطبي: قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمّة على كلّ حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنّه إنْ سبّ المسلمون أصنامه أو أمور شريعَته أن يَسُبّ هو الإسلام أو النّبيء عليه الصّلاة والسّلام أو اللّهَ عزّ وجلّ لم يحلّ للمسلم أن يسبّ صُلبانهم ولا كنائسهم لأنّه بمنزلة البعث على المعصيّة اه، أي على زيادة الكفر. وليس من السبّ إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة ولكنّ السبّ أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذّمة من سبّ الله تعالى أو سبّ النّبيء صلى الله عليه وسلم بأنّهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يعدّ سَبّاً وإن تجاوزوا ذلك عدّ سبّاً، ويعبّر عنها الفقهاء بقولهم: «مَا به كَفر وغير ما به كفر». وقد احتجّ علماؤنا بهذه الآية على إثبات أصل من أصول الفقه عند المالكيّة، وهو الملقّب بمسألة سَدّ الذّرائع. قال ابن العربي: «منع الله في كتابه أحداً أن يفعل فعلاً جائزاً يؤدّي إلى محظور ولأجل هذا تعلّق علماؤنا بهذه الآية في سدّ الذّرائع وهو كلّ عقد جائز في الظاهر يؤول أو يمكن أن يتوصّل به إلى محظور». وقال في تفسير سورة الأعراف (163) عند قوله تعالى: {واسْألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذْ يعدون في السّبت} قال علماؤنا: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذّرائع الّتي انفرد بها مالك رضي الله عنه وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت على الشّافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما مع تبحّرهما في الشّريعة، وهو كلّ عمل ظاهر الجواز يتوصّل به إلى محظور اه. وفَسَّر المازري في باب بيوع الآجال من شرحه للتّلقين} سَدّ الذّريعة بأنّه منع ما يجوز لئلاّ يتَطرّق به إلى ما لا يجوز اه. والمراد: سدّ ذرائع الفساد، كما أفصح عنه القرافي في «تنقيح الفصول» وفي «الفرق الثّامن والخمسين» فقال: الذّريعة: الوسيلة إلى الشّيء. ومعنى سدّ الذّرائع حسم مادّة وسائل الفساد. وأجمعت الأمّة على أنّ الذّرائع ثلاثة أقسام: أحدها: معتبر إجماعاً كحفر الآبار في طرق المسلمين وإلقاءِ السمّ في أطعمتهم وسبّ الأصنام عند من يُعلم من حاله أنّه يسبّ الله تعالى حينئذٍ. وثانيها: مُلغًى إجماعاً كزراعة العنب فإنّها لا تمنع لخشيَة الخمر، وكالشركة في سكنى الدّور خشية الزّنا. وثالثها مختلف فيه كبيوع الآجال، فاعتبر مالك رضي الله عنه الذّريعة فيها وخالفه غيره اه. وعَنَى بالمخالف الشّافعي وأبا حنيفة رضي الله عنهما. وهذه القاعدة تندرج تحت قاعدة الوسائل والمقاصد، فهذه القاعدة شعبة من قاعدة إعطاء الوسيلة حكم المقصد خاصّة بوسائل حصول المفسدة. ولا يختلف الفقهاء في اعتبار معنى سدّ الذّرائع في القسم الّذي حكى القرافي الإجماع على اعتبار سدّ الذّريعة فيه. وليس لهذه القاعدة عنوان في أصول الحنفيّة والشّافعيّة، ولا تعرّضوا لها بإثبات ولا نفي، ولم يذكرها الغزالي في «المستصفى» في عداد الأصول الموهومة في خاتمة القطب الثّاني في أدلّة الأحكام. و {عَدْواً} بفتح العين وسكون الدّال وتخفيف الواو في قراءة الجمهور، وهو مصدر بمعنى العدوان والظلم، وهو منصوب على المفعوليّة المطلقة ل«يسبّوا» لأنّ العدو هنا صفة للسبّ، فصحّ أن يحلّ محلّه في المفعوليّة المطلقة بياناً لنوعه. وقرأ يعقوب {عُدُوّاً} بضمّ العين والدّال وتشديد الواو وهو مصدر كالعَدْو. ووصفُ سبِّهم بأنّه عَدْو تعريض بأنّ سبّ المسلمين أصنامَ المشركين ليس من الاعتداء، وجعل ذلك السبّ عدواً سواء كان مراداً به الله أم كان مراداً به من يأمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به لأنّ الّذي أمر النّبيء صلى الله عليه وسلم بما جاء به هو في نفس الأمر اللّهُ تعالى فصادفوا الاعتداء على جلاله. وقوله: {بغير علم} حال من ضمير {يسبّوا}، أي عن جهالة، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبّه، ويسبّونه غير عالمين بأنّهم يسبّون الله لأنّهم يسبّون مَن أمر محمّداً صلى الله عليه وسلم بما جاء به فيصادف سبّهم سبّ الله تعالى لأنّه الّذي أمره بما جاء به. ويجوز أن يكون {بغير علم} صفة ل {عَدْواً} كاشفة، لأنّ ذلك العدو لا يكون إلاّ عن غير علم بعظم الجرم الّذي اقترفوه، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته. وقوله: {كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عمَلهم} معناه كتزييننا لهؤلاء سُوءِ عملهم زَيَّنَّا لكلّ أمّة عملهم، فالمشار إليه هو ما حكاه الله عنهم بقوله: {وجعلوا لله شركاء الجنّ إلى قوله فيسبّوا الله عدواً بغير علم} [الأنعام: 100 108]. فإنّ اجتراءهم على هذه الجرائم وعماهم عن النّظر في سوء عواقبها نشأ عن تزيينها في نفوسهم وحسبانهم أنّها طرائق نفع لهم ونجاة وفوز في الدّنيا بعناية أصنامهم. فعلى هذه السنّة وبمماثل هذا التّزيين زيّن الله أعمال الأمم الخالية مع الرّسل الّذين بُعثوا فيهم فكانوا يُشاكسونهم ويعصون نصحهم ويجترئون على ربّهم الّذي بعثهم إليهم، فلمّا شبّه بالمشار إليه تزيينا عَلِم السّامع أنّ ما وقعت إليه الإشارة هو من قبيل التّزيين. وقد جرى اسم الإشارة هنا على غير الطّريقة الّتي في قوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطا} [البقرة: 143] ونظائره، لأنّ ما بعده يتعلّق بأحوال غير المتحدّث عنهم بل بأحوال أعمّ من أحوالهم. وفي هذا الكلام تعريض بالتوعّد بأن سيحلّ بمشركي العرب من العذاب مثلُ ما حلّ بأولئك في الدّنيا. وحقيقة تزيين الله لهم ذلك أنّه خلَقهم بعقول يَحْسُن لديها مثلُ ذلك الفعل، على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 108]. وذلك هو القانون في نظائره. والتّزيين تفعيل من الزّيْن، وهو الحُسن؛ أو من الزّينة، وهي ما يتحسّن به الشّيء. فالتّزيين جعل الشّيء ذا زينة أو إظهاره زيْناً أو نسبته إلى الزّين. وهو هنا بمعنى إظهاره في صورة الزّين وإن لم يكن كذلك، فالتّفعيل فيه للنّسبة مثل التّفسيق. وفي قوله: {ولكنّ الله حبَّب إليكم الإيمان وَزَيَّنه في قلوبكم} [الحجرات: 7] بمعنى جعله زيناً، فالتّفعيل للجعل لأنّه حَسَن في ذاته. ولما في قوله: {كذلك زيّنّا لكلّ أمّة عملهم} من التّعريض بالوعيد بعذاب الأمم عقّب الكلام ب {ثُمّ} المفيدة التّرتيب الرتبي في قوله: {ثمّ إلى ربّهم مرجعهم فينبّئهم بما كانوا يعملون}، لأنّ ما تضمّنته الجملة المعطوفة ب {ثُمّ} أعظم ممّا تضمّنته المعطوفُ عليها، لأنّ الوعيد الّذي عُطفت جملته ب {ثمّ} أشدّ وأنكى فإنّ عذاب الدّنيا زائل غير مؤيّد. والمعنى أعظم من ذلك أنّهم إلى الله مرجعهم فيحاسبهم. والعدول عن اسم الجلالة إلى لفظ {ربّهم} لقصد تهويل الوعيد وتعليل استحقاقه بأنّهم يرجعون إلى مالكهم الذي خلقهم فكفروا نعمه وأشركوا به فكانوا كالعبيد الآبقين يطوِّفون ما يطوفوّن ثمّ يقعون في يد مالكهم. والإنباء: الإعلام، وهو توقيفهم على سوء أعمالهم. وقد استعمل هنا في لازم معناه، وهو التّوبيخ والعقاب، لأنّ العقاب هو العاقبة المقصودة من إعلام المجرم بجرمه. والفاء للتّفريع عن المَرْجِع مؤذنة بسرعة العقاب إثر الرّجوع إليه.
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)} عطف جملة: {وأقسموا} على جملة: {اتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك} [الأنعام: 106] الآية. والضّمير عائد إلى القوم في قوله: {وكذّب به قومك وهو الحقّ} [الأنعام: 66] مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى: {لئن جاءتهم آية} آية غيرُ القرآن. وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام. فروى الطّبري وغيره عن مجاهد، ومحمدّ بن كعب القُرظِي، والكلبي، يزيد بعضهم على بعض: أنّ قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السّلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون، أو مثل آية صالح، أو مثل آية عيسى عليهم السّلام، وأنّهم قالوا لمّا سمعوا قوله تعالى: {إنْ نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4] أقسموا أنّهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما تُوُعدوا ليوقِنُنّ أجمعون، وأنّ رسول الله عليه الصلاة والسّلام سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا، حرصاً على أن يؤمنوا. فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأنّ هذه السّورة جمعت كثيراً من أحوالهم ومحاجّاتهم. والكلام على قوله: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} هو نحو الكلام على قوله في سورة [العقود: 53] {أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم} والأيمان تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} في سورة [البقرة: 225]. وجملة: لئن جاءتهم آية} إلخ مبيّنة لجملة: {وأقسموا بالله}. واللاّم في {لئن جاءتهم آية} موطّئة للقسم، لأنّها تدلّ على أنّ الشّرط قد جعل شَرطاً في القسم فتدلّ على قَسَم محذوف غالباً، وقد جاءت هنا مع فعل القسم لأنّها صارت ملازمة للشّرط الواقع جواباً للقسم فلم تنفكّ عنه مع وجود فعل القسم. واللاّم في {ليومننّ بها} لام القسم، أي لام جوابه. والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله عليه الصلاة والسّلام، فلذلك نُكّرت {آية}، يعني: آيَّةَ آيةٍ كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم. ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء. وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} في سورة [البقرة: 39]. ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس، فكلمة عند} هنا مجاز. استعمل اسم المكان الشّديد القُرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازاً مرسلاً، لأنّ الاستئثار من لوازم حالة المكان الشّديد القرب عرفاً، كقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59]. والحصر ب {إنّما} ردّ على المشركين ظنّهم بأنّ الآيات في مقدور النّبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئاً فجعلوا عدم إجابة النّبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحَهم آية أمارة على انتفاء نبوءته، فأمره الله أن يجيب بأنّ الآيات عند الله لا عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، والله أعلم بما يُظهره من الآيات. وقوله: {وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} قرأ الأكثر (أنّها) بفتح همزة «أنّ». وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وخلَف، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن أبي بكر بكسر همزة (إنّ). وقرأ الجمهور {لا يؤمنون} بياء الغيبة. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف بتاء الخطاب، وعليه فالخطاب للمشركين. وهذه الجملة عقبة حَيرة للمفسّرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولْنَأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها، ثمّ نعقّبه بأقوال المفسّرين. فالّذي يلوح لي أنّ الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واوَ العطف وأن تكون واو الحال. فأمّا وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة: {إنّما الآيات عند الله} كلام مستقلّ، وهي كلام مستقلّ وجّهه الله إلى المؤمنين، وليست من القول المأمور به النّبيء عليه الصّلاة والسّلام بقوله تعالى: {قل إنّما الآيات عند الله}. والمخاطب ب {يشعركم} الأظهر أنّه الرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وذلك على قراءة الجمهور قوله: {لا يؤمنون} بياء الغيبة. والمخاطب ب {يشعركم} المشركون على قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف {لا تؤمنون} بتاء الخطاب، وتكون جملة {وما يشعركم} من جملة ما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى: {قل إنّما الآيات عند الله}. {وأما} استفهامية مستعملة في التّشكيك والإيقاظ، لئلاّ يغرّهم قَسم المشركين ولا تروجَ عليهم ترّهاتهم، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التّوبيخ ولا التّغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليطهم، إذ لم يثبت أنّ المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أنّ يجَابُوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية} وهي في سورة [يونس: 96، 97] وهي نازلة قبل سورة الأنعام، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدّين وتلوّنهم في اختلاق المعاذير. والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأنّ الاستفهام من شأنه أن يهيّءَ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهّب لوعي ما يرد بعده. والإشعار: الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفَى ويَدِقّ. يقال: شعَرَ فلان بكذا، أي علمه وتفطّن له، فالفعل يقتضي متعلِّقاً به بعد مفعوله ويتعيّن أن قوله: أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} هو المتعلِّق به، فهو على تقدير باء الجرّ. والتّقدير: بأنّها إذا جاءت لا يؤمنون، فحذف الجارّ مع (أنّ) المفتوحة حذف مطّرد. وهمزة (أنّ) مفتوحة في قراءة الجمهور. والمعنى أمُشْعِر يُشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، أي بعدم إيمانهم. فهذا بيان المعنى والتّركيب، وإنّما العقدَة في وجود حرف النّفي من قوله: {لا يؤمنون} لأنّ {ما يشعركم} بمعنى قولهم: ما يدريكم، ومعتاد الكلام في نظير هذا التّركيب أن يجعل متعلّق فعل الدّراية فيه هو الشّيء الّذي شأنُه أن يَظُنّ المخاطبُ وقوعَه، والشَّيء الَّذي يُظَنّ وقوعُه في مثل هذا المقام هو أنّهم يُؤمنون لأنّه الَّذي يقتضيه قسمهم {لئن جاءتهم آية ليؤمننّ} فلمّا جعل متعلِّق فعل الشّعور نفيَ إيمانهم كان متعلِّقاً غريباً بحسب العرف في استعمال نظير هذا التّركيب. والّذي يقتضيه النّظر في خصائص الكلام البليغ وفروقِه أن لا يقاس قوله: {وما يُشعركم} على ما شاع من قول العرب {ما يُدريك}، لأنّ تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتّى جرى مجرى المثل باستعماللٍ خاصّ لا يكادون يخالفونه كما هي سُنّة الأمثال أن لا تغيّر عمّا استعملت فيه، وهو أن يكون اسم (ما) فيه استفهاماً إنكارياً، وأن يكون متعلّق يُدريك هو الأمر الّذي ينكره المتكلّم على المخاطب. فلو قسنا استعمال {ما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} على استعمال (ما يدريكم) لكان وجود حرف النّفي منافياً للمقصود، وذلك مثار تردّد علماء التّفسير والعربيّة في محمل {لا} في هذه الآية. فأمّا حين نتطلّب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب (ما يدريكم) وإلى إيثار تركيب {ما يشعركم} فإنّنا نعلم أنّ ذلك العدول لمراعاة خصوصيّة في المعدول إليه بأنّه تركيب ليس متَّبعاً فيه طريق مخصوص في الاستعمال، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظمُ في استعمال الأدواتتِ والأفعاللِ ومفاعيلها ومتعلّقاتها. فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التّنبيه والتشكيك في الظنّ، ونحمل فعل {يشعركم} على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العِلم، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباتُه سواء في الفرض الّذي اقتضاه الاستفهام، فكان المتكلّم بالخيار بين أن يقول: إنّها إذا جاءت لا يؤمنون، وأن يقول: إنّها إذا جاءت يؤمنون. وإنّما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنّه الطرف الرّاجح الّذي ينبغي اعتماده في هذا الظنّ. هذا وجه الفرق بين التّركيبين. وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا يَنبغي لصاحب علم المعاني غضّ النّظر عنها، وكثيراً ما بيّن عبد القاهر أصنافاً منها فليُلحَق هذا الفرق بأمثاله. وإنْ أبَيْتَ إلاّ قياسَ {ما يشعركم} على (مَا يُدريكم) سواء، كما سلكه المفسّرون فاجعل الغالب في استعمال (ما يُدريك) هو مقتضى الظّاهر في استعمال {ما يُشعركم} واجعَل تعليق المنفي بالفعل جرياً على خلاف مقتضى الظّاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب. وأمّا وجه كون الواو في قوله: {وما يشعركم} واو الحال فتكون «ما» نكرة موصوفة بجملة {يشعركم}. ومعناها شَيء موصوف بأنّه يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون. وهذا الشّيء هو ما سبق نُزوله من القرآن، مثل قوله تعالى: {إنّ الَّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية} [يونس: 96، 97]، وكذلك ما جرّبوه من تلوّن المشركين في التفصّي من ترك دين آبائهم، فتكون الجملة حالاً، أي والحال أنّ القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيْمانهم، قال تعالى: {إنّهم لا أيْمان لهم} [التوبة: 12]. وإنّي لأعجب كيف غاب عن المفسّرين هذا الوجه من جعل «ما» نكرة موصوفة في حين أنّهم تطرّقوا إلى ما هو أغرب من ذلك. فإذا جعل الخطاب في قوله: {وما يشعركم} خطاباً للمشركين، كان الاستفهام للإنكار والتّوبيخ ومتعلِّق فعل {يشعركم} محذوفاً دلّ عليه قوله: {لئن جاءتهم آية}. والتّقدير: وما يشعركم أنّنا نأتيكم بآية كما تريدون. ولا نحتاج إلى تكلّفات تكلّفها المفسّرون، ففي «الكشاف»: أنّ المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنّوا مجيئها فقال الله تعالى: وما يدريكم أنّهم لا يؤمنون، أي أنّكم لا تدرون أنّي أعلم أنّهم لا يؤمنون. وهو بناء على جعل {ما يشعركم} مساوياً في الاستعمال لِقولهم {ما يدريك}. ورَوى سيبويه عن الخليل: أنّ قوله تعالى: {أنّها} معناه لَعلّها، أي لعلّ آية إذا جاءت لا يؤمنون بها. وقال: تأتى (أنّ) بمعنى لعلّ، يريد أنّ في لعلّ لغة تقول: لأنّ، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الأخيرة نوناً، وأنّهم قد يحذفون اللام الأولى تخفيفاً كما يحذفونها في قولهم: علّك أن تفعل، فتصير (أنّ) أي (لعلّ). وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللّغة، وأنشدوا أبياتاً. وعن الفرّاء، والكسائي، وأبي عليّ الفارسي: أنّ {لا} زائدة، كما ادّعوا زيادتها في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95]. وذكر ابن عطيّة: أنّ أبا عليّ الفارسي جعل {أنّها} تعليلاً لقوله {عند الله} أي لا تأتيهم بها لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون، أي على أن يكون {عند} كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه. وعلى قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويعقوب، وخلف، وأبي بكر، في إحدى روايتين عنه {إنّها} بكسر الهمزة يكون استئنافاً. وحذف متعلّق {يشعركم} لظهوره من قوله {لَيُؤمِنُنّ بها}. والتّقدير: وما يشعركم بإيمانهم إنّهم لا يؤمنون إذا جاءت آية. وعلى قراءة ابن عامر، وحمزة، وخلف بتاء المخاطب. فتوجيه قراءة خلف الّذي قرأ {إنّها} بكسر الهمزة، أن تكون جملة {أنّها إذا جاءت} الخ خطاباً موجّهاً إلى المشركين. وأمّا على قراءة ابن عامر وحمزة اللّذيْن قرآ {أنّها} بفَتح الهمزة فأن يجعل ضمير الخطاب في قوله: {وما يشعركم} موجّهاً إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على {يشعركم}.
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)} يجوز أن يكون عطفاً على جملة {أنّها إذا جاءت لا يؤمنون} [الأنعام: 109] فتكون بياناً لقوله {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]، أي بأن نعطِّل أبصارَهم عن تلك الآية وعقولهم عن الاهتداء بها فلا يبصُرون ما تحتوي عليه الآية من الدّلائل ولا تفقه قلوبهم وجه الدّلالة فيتعطَّل تصديقهم بها، وذلك بأن يحرمهم الله من إصلاح إدراكهم، وذلك أنّهم قد خُلقت عقولهم نابية عن العلم الصّحيح بما هيّأ لها ذلك من انسلالها من أصول المشركين، ومن نشأتها بين أهل الضّلال وتلقّي ضلالتهم، كما بيّنتُه آنفاً. فعبّر عن ذلك الحال المخالف للفطرة السّليمة بأنّه تقليب لعقولهم وأبصارهم، ولأنّها كانت مقلوبة عن المعروف عند أهل العقول السّليمة، وليس داعي الشّرك فيها تقليباً عن حالة كانت صالحة لأنّها لم تكن كذلك حيناً، ولكنّه تقليب لأنّها جاءت على خلاف ما الشّأن أن تجيء عليه. وضمير {به} عائد إلى القرآن المفهوم من قوله: {لئن جاءتهم آية} [الأنعام: 109] فإنّهم عَنوا آية غير القرآن. والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة} لتشبيه حالة انتفاء إيمانهم بعد أن تجيئهم آية ممّا اقترحوا. والمعنى ونقلِّب أيديهم وأبصارهم فلا يؤمنون بالآية الّتي تجيئهم مثلَما لم يؤمنوا بالقرآن من قبلُ، فتقليب أفئدتهم وأبصارهم على هذا المعنى يحصل في الدّنيا، وهو الخذلان. ويجوز أن تكون جملة {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} مستأنفة والواو للاستئناف، أو أن تكون معطوفة على جملة {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]. والمعنى: ونحن نقلّب أفئدتهم وأبصارهم، أي في نار جهنّم، كناية عن تقليب أجسادهم كلّها. وخصّ من أجسادهم أفئدتُهم وأبصارهُم لأنّها سبب إعراضهم عن العبرة بالآيات، كقوله تعالى: {سحروا أعْيُن النّاس} [الأعراف: 116]، أي سحروا النّاسَ بما تُخيِّلُه لهم أعينهم. والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به} على هذا الوجه للتّعليل كَقوله: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]. وأقول: هذا الوجه يناكده قوله {أوّل مرّة} إذ ليس ثمّة مرّتان على هذا الوجه الثّاني، فيتعيّن تأويل {أوّل مرّة} بأنّها الحياة الأولى في الدّنيا. والتّقليب مصدر قلّب الدالّ على شدّة قلب الشّيء عن حاله الأصليّة. والقلب يكون بمعنى جعل المقابل للنظر من الشيء غير مقابل، كقوله تعالى: {فأصبح يُقلِّب كفَّيْه على ما أنفق فيها} [الكهف: 42]، وقولهم: قَلَب ظَهْر المِجَن، وقريب منه قوله: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء} [البقرة: 144]؛ ويكون بمعنى تغيير حالة الشيء إلى ضدّها لأنّه يشبه قلب ذات الشّيء. والكاف في قوله: {كما لم يؤمنوا به} الظّاهر أنّها للتّشبيه في محلّ حال من ضمير {لا يؤمنون} [الأنعام: 109]، و«ما» مصدريّة. والمعنى: لا يؤمنون مثل انتفاء إيمانهم أوّل مرّة. والضّمير المجرور بالباء عائد إلى القرآن لأنّه معلوم من السّياق كما في قوله: {وكذّب به قومك} [الأنعام: 66]، أي أنّ المكابرة سجيّتهم فكما لم يؤمنوا في الماضي بآية القرآن وفيه أعظم دليل على صدق الرّسول عليه الصّلاة والسّلام لا يؤمنون في المستقبل بآيةٍ أخرى إذا جاءتهم. وعلى هذا الوجه يكون قوله: {ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم} معترضاً بالعطف بين الحال وصاحبها. ويجوز أن يجعل التّشبيه للتقليب فيكون حالاً من الضّمير في {نقلّب}، أي نقلّب أفئدتهم وأبصارهم عن فطرة الأفئدة والأبصار كما قلّبناها فلم يؤمنوا به أوّل مرّة إذ جمحوا عن الإيمان أوّلَ ما دعاهم الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، ويصير هذا التّشبيه في قوّة البيان للتّقليب المجعول حالاً من انتفاء إيمانهم بأنّ سبب صدورهم عن الإيمان لا يزال قائماً لأنّ الله حرمهم إصلاح قلوبهم. وجوّز بعض المفسّرين أن تكون الكاف للتّعليل على القول بأنّه من معانيها، وخُرّج عليه قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198]. فالمعنى: نقلّب أفئدتهم لأنّهم عصوا وكابروا فلم يؤمنوا بالقرآن أوّلَ ما تحدّاهم، فنجعلُ أفئدتهم وأبصارهم مستمرّة الانقلاب عن شأن العقول والأبصار، فهو جزاء لهم على عدم الاهتمام بالنّظر في أمر الله تعالى وبعثة رسوله، واستخفافهم بالمبادرة إلى التّكذيب قبل التّأمّل الصّادق. وتقديم الأفئدة على الأبصار لأنّ الأفئدة بمعنى العقول، وهي محلّ الدّواعي والصّوارف، فإذا لاح للقلب بارق الاستدلال وجّه الحواس إلى الأشياء وتأمّل منها. والظّاهر أنّ وجه الجمع بين الأفئدة والأبصار وعدم الاستغناء بالأفئدة عن الأبصار لأنّ الأفئدة تختصّ بإدراك الآيات العقليّة المحضة، مثل آية الأمِّية وآيةِ الإعجاز. ولمّا لم تكفهم الآيات العقليّة ولم ينتفعوا بأفئدتهم لأنّها مقلَّبة عن الفطرة وسألوا آيات مرئيّة مبصَرة، كأنْ يرقى في السّماء وينزلَ عليهم كتاباً في قرطاس، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأنّهم لو جاءتهم آية مبصرة لَمَا آمنوا لأنّ أبصارهم مقلّبة أيضاً مثل تقليب عقولهم. وذُكِّر {أوّل} مع أنّه مضاف إلى {مرّة} إضافة الصفة إلى الموصوف لأنّ أصل «أوّل» اسمُ تفضيل. واسم التّفضيل إذا أضيف إلى النّكرة تعيّن فيه الإفراد والتّذكير، كما تقول: خَديجَةُ أوّل النّساء إيماناً ولا تقول أولى النّساء. والمراد بالمرّة مرّة من مَرّتَيْ مجيء الآيات، فالمرّة الأولى هي مَجيء القرآن، والمرّة الثّانية هي مجيء الآية المقترحة، وهي مرّة مفروضة. {ونَذَرُهم} عطف على {نُقلّب}. فحُقِّق أنّ معنى {نقلّب أفئدتهم} نتركها على انقلابها الّذي خلقت عليه، فكانت مملوءة طغياناً ومكابرة للحقّ، وكانت تصرف أبصارهم عن النّظر والاستدلال، ولذلك أضاف الطّغيان إلى ضميرهم للدّلالة على تأصّله فيهم ونشأتهم عليه وأنّهم حرموا لين الأفئدة الّذي تنشأ عنه الخشيةُ والذّكرى. والطّغيان والعَمَه تقدّماً عند قوله تعالى: {ويمُدّهم في طغيانهم يعمهون} في سورة [البقرة: 15]. والظّرفيّة من قوله: في طغيانهم} مجازية للدّلالة على إحاطة الطّغيان بهم، أي بقلوبهم. وجملة: {ونذرهم} معطوفة على {نقلّب}. وجملة {يعمهون} حال من الضّمير المنصوب في قوله: {ونذرهم}. وفيه تنبيه على أنّ العمَه ناشيء عن الطّغيان.
|